انواع مبهجة للموت
***
في هذا الوقت يشعرني هاتفي المحمول و رناته المتصلة بأنه يخترق خصوصيتي ... اتتني رسالة من صديقة أخرها كان – كن بخير يا صديقي – شعرت وقتها أن الكهف ربما يكون شفاف لبعض الناس ... بالأخص من يقتربون من أن يكونوا كائنات نورانية لا يزعجوا ابدا من يقتربون منه
لا يهمني أن تراني تلك الكائنات حتي و أنا فاقد للتواصل معهم كل ما يهمني أن اظل بداخل الكهف استنشق الصمت ... ليبعث الطمأنينة رويدا رويدا لروحي المنزعجة
***
توصلت لهذة الحقيقة منذ زمن طويل و يوما بعد يوم تتأكد لي صحتها ... احب الصداقة مع الفتيات المسيحيات ممن يكبرونني في العمر , أو المسلمات بجميع اعمارهم ... و لا احب أن اصادق أي فتاة يمكن أن تعتبرني مشروع عريس مقبل ... و تنشأ الحساسيات و الحزازيات نتاج لذلك ... و بعد فترة اتحول الي صورة في البوم العرسان لديها فهذا امر مزعج ... مزعج جدا
***
عندما دخلت الي مكان عملها وجدتهم ملتفين من حولها ... كانت تتحدث في التليفون قبلها بعشرين دقيقة معي
كانت تبكي و صوت انفاسها يعلو و يهبط لدرجة مخيفة ... في اثناء محاولاتي لتهدئتها و محاولة فهم ماذا حدث إنقطع الخط .. عاودت الاتصال بها .. اجابني زميلها في العمل ... فسألته عنها فأخبرني بأنها في طريقها الي المستشفي
بعدها بيومين .. قالت لي انها شعرت بحالة من الصفاء الشديدة بعد أن فقدت الوعي ... و أنها اصبحت اسعد حالا و تصالحت مع الحياة و الظروف اخيرا
اعرف أن الروح في هذه الاثناء يخرج جزء كبير منها من الجسد .. فتري للحظات قليلة الفضاء الواسع لحريتها خارج الجسد المادي ... الحرية التي تتحقق بالموت ... و تعود الروح بعد ذلك الي الجسد كطفل صغير زار الحدائق لأول مرة ... مبتهج ... دائما يعود هؤلاء من كانوا يواجهون الموت سواء في الحروب أو بعد نوبات الأزمات القلبية ... أشخاص مختلفين ... لا احد يمر بهذة التجربة و يظل هو هو نفس الشخص ابدا
***
صديقة اخري ... عندما جلست معها ... و هي الخرق الوحيد للقانون الذي ذكرته بالأعلي عن الصداقة مع الفتيات ... فقد اصلح لها كمشروع صورة في البوم العرسان الخاص بها لأنها اصغر مني سنا ... و لكنني أعتبرها مثل أختي تماما ... و هي أيضا ... قالت لي انها اصبحت تتعجب من نفسها ... فوجود بعض الأشخاص في حياتها يجعلها سعيدة ... و لكن غيابهم لا يسبب لها أي شعور بافتقادهم ابدا ... فقلت لها هذا هو الكهف ... و لما شرحت لها نظرية الكهوف ... ابتسمت و اشارت لي لأحد المجانين كان يعبر الشارع في الناحية الأخري ... و قالت لي هذا الرجل يحمل كهفه و يمشي ... فاعجبتني اللعبة ... فقلت لها ... كل هؤلاء المارين من امامنا ... يحملون كهوفهم و يمشون فعلت ضحكاتنا وسط استهجان العاملين بالمكان
***
احببتها لمدة اسبوع بعد أن عرضت هي علي ذلك ... سعدت كثيرا بهذا العرض
ارسلت لها امس رسالة قصيرة من تليفوني المحمول ... فلم أعد قادرا علي ممارسة فعل النطق ... و سيطر الصمت تماما علي تلك الحاسة البغيضة لدي ... قلت لها
اسف ... لم اعد استطيع ان اكمل معكي ... ليس لدي أي مخزون مشاعر لكي أو لأي فتاة
فأرسلت لي رسالة فارغة من الحروف كأجابة ... فتيقنت من أن فيروس الصمت انتقل في صمت مني اليها في اقل من اسبوع
***
الكتابة اليومية هي شيء هام للغاية و هي تطيل العمر بالتأكيد ... معظم الكتاب المبدعين ممن احببتهم كانت اعمارهم طويلة ... ببساطة لأنهم كانوا يرون أي حادث شديد الحزن علي النفس البشرية ... كمشهد بديع جدير بالتسجيل حتي و لو كان يحدث لهم هم
***
عندما مر ابراهيم عبد المجيد بجانبنا في معرض الكتاب العام الماضي ... ابتسم رامز الشرقاوي و عبد الرحمن مصطفي ... قالوا لي ... ها هو اديبك المفضل مر بجانبنا و لم تلاحظه ... اذهب و سلم عليه ... و قل له انك الوحيد الذي يقرأ له في مصر ... كانوا يضحكون بشدة و يحاولون استفزازي لمعرفتهم بأنني احب كثيرا كتابات هذا الرجل
كانت قدماي متعبتان لدرجة انني لم استطيع ان الاحق خطواته السريعة فلم اسلم عليه ... في هذا السياج المطبق من الصمت الذي فرضته حول نفسي ... نظرت الي مكتبتي فوجدت رواية عتبات البهجة ... اشتريتها في نفس اليوم الذي رأيت فيه الرجل ... فقررت قرائتها ... بعد أن انتهيت منها استطيع ان اقول و بكل وضوح هذه هي افضل رواية قرأتها منذ ولدتني امي ... في نهايتها اورد هذا المقطع الجميل ... قال علي لسان احد ابطاله – الوقوف علي عتبات البهجة دائما افضل من البهجة نفسها ... اجل , البهجة أمر سهل , لكن إذا طمعت فيها قتلتك و اهلكتك – و في نهاية الرواية قرأت تلك الكلمات الجميلة المزينة برسومات برسومات حلمي التوني – ابطال هذه الرواية الجديدة لأبراهيم عبد المجيد بسطاء في مشاعرهم , ابرياء في استقبال العالم حولهم , وحيدون يلوذون ببعضهم , ينتصرون علي القسوة التي تحاصرهم بالدهشة الدائمة التي تتجلي في أكثر من اسلوب من السخرية , الي روح الدعابة الي القلق الي الوداعة و الرضا . مجسدة لمحفل جميل تختلف فيه طرق الناس للانتصار علي الوقت بالاستمرار فيه او الخروج منه . إنها رواية عن حيرة الإنسان في العالم , رغم ما ينسكب منها من فكاهة أو مرح .
في نهاية الصفحات ايضا ... وجدت نمرة تليفون الكاتب ... و كأنه كان يعرف ... فقررت أن ارسل له رسالة قصيرة دون أن احدثه حتي لا اكسر سياج الصمت ... اقول له فيها ... شكرا علي رواية عتبات البهجة ... أنت اديب عظيم ... اديبي المفضل عن جدارة يا استاذ ابراهيم