العيب مش في العيش ... العيب في اللي بياكلوه
طلبت كوب من القهوة ... ارتشفت منه اول رشفة ثم تركته بجانبي ...فلا هو بالقهوة و لا بالماء القذر المغلي .. شيء وسيط .. فشلت في تحديد ماهيته ... فلا هو بالبن و لا السوداني المطحون و لا التراب حتي
بجانب الرجل الاعمي جلس رجل اخر ضخم ... شنبه كبير ... شنب يليق بفكهاني او تاجر ماشية ... يرتدي جلباب من الحرير الاخضر اللامع .. و تلفيعه حريريه ... يمسك بيدة مسبحة فضية ... و مفتاح سيارة مرسيدس مذهب
طلب كوب من الشاي و شيشه ... هكذا طلب من القهوجي ... شوية شاي ... و حجر معسل ولعة خفيفة
فنادي القهوجي ... شاي علي بوسطة و شيشة قص للحاج عسران ... و اختفي
تبدو من قسمات وجه الرجل ... اللاشيء .. القيت بعيني علي الجانب الاخر ... فوجدت طابور طويل امام فرن العيش ... يقف الناس في استسلام و هم يشاهدون طاولات العيش تعبر بجانبهم عابرة الشارع .. الي اين تذهب؟
العلم عند الله
شعرت بالاختناق و الحر ... خلعت الجاكيت ... فشعرت بالبرودة ... لم يأتي حتي الأن صديقي
القيت بنظري الي الناحية الاخري ... طابور العيش يطول ... بسرعة غريبة ... و لا زالت طاولات العيش تخرج الي مصير مجهول ... بعض الواقفين في الطابور ينظرون في استسلام الي الارض ... الاخرين يتطلعون بشوق الي الشباك المعدني الفارغ ... و لا احد ينظر الي الطاولات الخارجة ... لا احد
كل شيء من حولي يدعو للأختناق ... نظرت الي السماء ... هذا هو المكان الوحيد الذي لم ينجح البشر في ان يمسخوه ... لونها رمادي يميل الي الزرقة الخفيفة ... حتي و هي حزينة هادئة ... مريحة للأعصاب
سمعت صوت عالي بشدة لسعد الصغير و سباب لاذع ... سائق توك توك يتعارك مع سائق ميكروباص
ميكروباص ... توك توك ... توك توك ... ميكروباص ... توك توك ... ميكروباص
نسي سائق التوك توك اغلاق صوت مسجله و هو يداعب سائق الميكروباص بسب امه و ابيه و كل عائلته
بالامس كنت اتحدث مع صديق عن ان هذا هو عصر التوك توك ... انتهي عصر الميكروباص نهائيا .. و هو يحاول جاهدا أن يظل موجودا ... و لكن التوك توك ينتشر ... ينتشر و يتوغل ... بلا لوحات معدنيه و لا رخص قيادة ينتشر .. و يتوغل
عاد الشارع لهدوئه مرة اخري بعد أن ذهبا ... حتي أتي زبون اخر للمقهي و جلس بجانبي ... يرتدي بنطلون واسع من القطيفة البني ... و قميص ابيض قذر و شعره اشعث ... طلب حجر معسل هو الأخر ... المعسل .. انه الانتحار الجماعي لهذا الشعب ... اتذكر تلك الحلقة من العاشرة مساء ... عندما قال علاء الاسواني ... ده اكتئاب جماعي ... قاصدا ظاهرة التدين الكاذبة ... وددت ان اتصل به و اقول له و نتيجه لهذا الاكتئاب يمارس الجميع الانتحار جماعي بحرق المعسل
نظر الي ذو القميص الابيض القذر و البنطلون الواسع ... و بدأ يضحك بصوت عالي ... فتجاهلته في البدايه و لكنه لم يتوقف عن الضحك ... صوت قهقهه يعلو و يعلو ... و هو ينظر الي ... فنظرت اليه ... فظل يضحك و يضحك ... و لأن الضحك هو اجمل عدوي يمكنني التقاطها ... فلم استطع ان لا ابادله الضحك حتي و لو كان يضحك علي و لا اعرف السبب ... نظر بعدها الي الحاج ذو الملابس الحريريه الجالس امامنا ... و اشار بأصبعه اليه ليوجه نظري له ... و اكمل ضحكه و قهقهاته ... فنظر له الحاج عسران شذرا ثم ابتسم ملوحا بيده امام وجهه و هو ينظر الي ... و قال المجانين في نعيم ... نظرت الي الرجل الكفيف ... كنت قد نسيت وجوده ... فوجدته لا زال يضعه مبسم الشيشة علي فمه و يشرب منها ... حتي بعد ان اطفأ كل الفحم ... نظرت الي المجنون الباسم .. فوجدته ينظر الي الطابور امام فرن العيش و يضحك ... نظرت الي الفرن ... فوجدت الطابور لازال يتسع رأسيا و أفقيا
مين اللي عاقل فينا مين مجنون !؟
فارقتني عدوي الضحك ... و لكن لم تفارق المجنون الضاحك قهقهاته العاليه الساخرة من حالنا
العيب مش في العيش ... العيب في اللي بياكلوه