الجمعة، يناير 14، 2011

احترف الحزن و الانتظار

رغبة عميقة في الاجهاش بكاءا , لا اعرف مصدرها , مكان بعيد في الذاكرة حفرته السنوات مزخرفة ابوابه بمنمنمات دقيقة مضللة فلم يعد باديا للعيان , لم اعد املك القدرة علي تمييزه , تختلط الاحداث مشكلة تراكمات يصعب تفهمها او تبريرها , ففي المرة الأخيرة سألتني احداهن , لما لم تعد تكتب !؟

ابديت لها ارتياح لأنني توقفت عن هذا الفعل , كذبت بحرفية شديده و لكن صدق السؤال جعلني عاريا امام نفسي

" إفرض إني عايزة اشوف المكان ده و الناس اللي فيه بعينيك انت ! "

لم اكمل هذه المحادثة معها , ادرت دفة الكلمات بهدوء محاولا التماسك , لا احد يحب أن يظل عاريا لأوقات طويلة حتي و لو امام نفسه , شردت بعيدا عن طاولتنا , وجوه مألوفة تحيط بي , اعرفهم او ربما اظن انني افعل

**

سهرت امام التليفزيون يومها , اشاهد برنامج غريب , يسأل المذيع الضيف مجموعة من الاسئلة , تتعلق بحياته الشخصية امام اقربائه و اصدقائه , و جهاز كشف الكذب يقيم اجاباته , " صدق " او " كذب " , و في نهاية كل مجموعة اسئلة يقرر ان يستلم جائزته المالية او يكمل الطريق لمجموعة اسئلة اخري تؤدي لجائزة مالية اكبر , يبدأ الجميع بالاجابة بمنتهي الصراحة , كأن يسأل احدهم هل فعلت شيئا لا تود أن تعرف زوجتك شيئا عنه !؟

هل مارستي الجنس مع رجل لمجرد أنه غنيا !؟ هل نافقت مديرك لكي تحافظ علي عملك !؟

بعد عدة اجابات صريحة من الضيف و امتعاض من اقربائه و اصدقائه , تدفعه دفعا للكذب لكي يتجنب حرج الصراحة المفرطة , و لكي يتجنب الخسارة المعنوية التي لن يعوضها مبلغ مالي حتي و لو كان نصف مليون دولار

يكذب في احدي الاسئلة , يخسر بعضا من خصوصيته امام الملايين و لا يكسب الجائزة , تسائلت من هذا السادي صاحب فكرة تعرية البشر امام الملايين لكي يجني بعض المكاسب من ورائه !؟ و من هذا الاحمق الذي يوافق علي فضح حياته الخاصة ايا كان المقابل !؟

كان السؤال الاهم لماذا يدفعنا اقرب اقربائنا من الاهل و الاصدقاء لأن نتظاهر باشياء عكس طبيعتنا !؟ و من هذا الذي نجح في محاربة طبيعته الانسانية و نجح !؟

**

في محادثة الكترونية يسألني محدثي مصرا علي نعتي بالصديق تواضعا منه , ففارق العمر و الخبرة و المكانة لا تسمح ابدا الا بأن اكون مجرد معجبا له , لما توقفت عن الكتابة !؟

انت لو ركزت في الكتابة انا متأكد انك هتبقي من اهم الكتاب في جيلك , عندما يأتي المديح من مثل هؤلاء اصدقه لأنهم لا يحتاجون لي أو حتي لمجاملتي , يكون رأيهم صادقا و منزها عن المصالح الشخصية التي تدفع البعض لمجاملتك و وصفك ببعض الصفات التي تملك نقيضها في معظم الاحيان , مرة أخري اقع في حيرة الصراحة و الإدعاء , الصدق و الخداع , اجبته بأنه لا وقت لدي للكتابة حاليا , كنت اكذب مرة اخري , شجعني الرجل علي ان اعاود الفعل , و اخبرني ان نسخة من كتابه الاخير لازالت لديه و سيهديني اياها فور وصوله الي مصر , شكرته ممتنا بعد عدة جمل الكترونية اخري تبادلنا فيها الحديث عن احوال الوطن .

**

امسكت بعدها بالقلم الجرافيتي ذو اللون الاسود الوقع ( تو- بي ) , احتاج الي البوح , مارست تلك الألية للمرة الاولي في سن مبكرة , كنت في التاسعة في معسكر كشفي ببورفؤاد , المرة الاولي لي أن يأتي الليل و أنا مبتعدا عن البيت بمثات الكيلومترات , اصطنعت يومها صباحا المرض علهم يعيدوني الي اهلي في القاهرة , فما كان منهم الا أن اجلسوني في غرفة قائد المعسكر منتظرا وصوله لأعرض عليه مطلبي , ظل هو يخطب في , انت رجل , لا يجب ان تخاف , انظر الي الجميع , كلهم يعملون باستمتاع , حاولت بث شكواي من قائد فرقتي الصغيرة و لم استطع , حبست الكلمات في حلقي و بكيت , ظن هو انني امعن في الادعاء , خرجت من الغرفة شاعرا بالتهاب حقيقي في حلقي .

اثرت الصمت لبقية اليوم و علي السرير الصغير اجتهدت الا اسمع صوت السوست المعدنية الصدأة و هي تصرخ باكية كلما تحركت فوق السرير , امسكت بنفس القلم الجرافيتي ( تو – بي ) اذبت حشوه علي عدة اوراق و انا ابث شكواي لا اعرف لمن !!

**

تيقنت بعدها بعدة سنوات ان هذا الشخص الذي لم اعرفه وقتها هو ... انا , ادركت تلك الحقيقة عندما عصي القلم الكتابة مشكلا كلمات و بدأ في رسم خطوط دائرية بدت بلا معني , متاهات صغيرة متداخلة تملأ الصفحة , التقطتها في احدي الايام عين مدربة لطبيبة نفسية اثناء حضوري لمؤتمر عنوانه كان مثار لسخريتي من اليوم الأول " الشباب القيادي العربي " و لم يكن محتواه مثيرا للسخرية بقدر العنوان , فقد كان مملا بدرجة قاتلة , كلمات كبيرة تقال , لا معني لها , هل دفعهم احد لكي يكذبوا بهذه الطريقة الفجة !؟ ربما !!

اتت تلك الطبيبة كنجدة فقد ظلت تتحدث عن هذا العلم الذي يحلل الاشخاص عن طريق خطوطهم و رسمهم حتي نهاية اليوم , فتحت اذني لحديثها العذب و في اليوم التالي لم استمع لأي من الجلسات , مارست تطبيق ما قالته علي الرسوم التي تملأ اوراقي و تفهمت أنها بديل حقيقي للكتابة .

**

لا ندرك قيمة الاشياء الا عندما نفقدها , لا نعي قيمة الافعال الا اذا اصبحنا عاجزين عن ممارستها , المرة الثانية التي شعرت انني احتاج للكتابة كانت في مدينة المنصورة , شقة مفروشة اعيش فيها وحيدا , بعيدا عن القاهرة مرة اخري بمئات الكيلومترات , هل هي الغربة ام الوحدة ام الحزن هو ما يدفعنا لهذا الفعل ... الكتابة !؟

سمعت يومها لأول مرة اغنية فيروز , " احترف الحزن و الانتظار , ارتقب الأتي و لا يأتي , تبددت زنابق الوقت , عشرون عاما و انا احترف الحزن و الانتظار , عبرت من بوابة الدموع الي صقيع الشمس و البرد , لا اهل لي , في خيمتي وحدي , عشرون عاما و انا يسكنني الحنين و الرجوع , كبرت في الخارج , بنيت اهلا اخرين , كالشجر استنبتهم فوقفوا امامي , صار لهم ظل علي الارض , و من جديد ضربتنا موجة البغض , و ها انا استوطن الفراغ , شردت عن اهلي مرتين , سكنت في الغياب مرتين , ارضي ببالي و انا احترف الحزن و الانتظار "

اكتشفت بعد سماعها انني علي وشك البكاء , و لكنني لم افعل كالعادة , اي عادة تلك التي تحبس الكلمات عن الخروج من صدورنا و الدموع من عيوننا !؟

امسكت بورقة و قلم و ظللت اكتب , لم اتوقف عن الفعل الا عندما شعرت بالراحة

**

فعل اخر لم اعد قادرا علي ممارسته , الوداع , لا احب تلك الاماكن التي يسافر منها الاصدقاء و بالاخص المطارات , و لم اعد قادرا علي توديعهم , ازداد حديث الهجرة بين اصدقائي بعد حادثة كنيسة القديسين بالاسكندرية , كم فقدت من اصدقاء امام تلك المنافذ المؤدية لأراض بعيدة , غريبة , و من كثرة الوداعات لم اعد قادرا علي ممارسة الفعل ايضا , انها حقيقة اننا لا ندرك قيمة الافعال الا بعد عجزنا عنها

**

كتبت اليوم لأنني لدي رغبة عميقة في الاجهاش بكاءا , لا اعرف مصدرها , مكان بعيد في الذاكرة حفرته السنوات مزخرفة ابوابه بمنمنمات دقيقة مضللة فلم يعد باديا للعيان , لم اعد املك القدرة علي تمييزه , تختلط الاحداث علي , مشكلة تراكمات يصعب تفهمها او تبريرها .

من فعلها !؟

اول امس اثناء تجولي حول المظاهره بدوران شبرا , رأيت وجها اصفر اللون و مترب الملامح , حفر الفقر و العوز و الحزن علي وجهه اثارا لا تمحي , كان منحنيا نصف انحناءه و يحمل فوق كتفه كليم اصفر رديء رخيص الثمن , وقف ينظر الي المظاهره و هو يقول , الله يلعنكم يا بعدا , لا اعرف كان يتكلم عن من , عسكر الامن المركزي المصفوف بعنايه , ام المتظاهرين , تذكرت وجهه الذي كنت امر عليه بشكل شبه يومي ولم اعطه اي اهتمام قبل ذلك اليوم, يقف هذا الرجل عادة في مكان المظاهره , يبدو أنه كان غاضبا مما يحدث فقد اخذ مكانه اليوم مجموعه من الشباب لكي يهتفوا بهتافات اغلب الظن انه لا يفهمها , كل ما يعرفه أنه اليوم , قطع رزقه الضئيل , تأملته طويلا و هو يمشي و ظهره منحني , كانت نظرته حزينه و عيناه لم تفارقا الاسفلت للحظة واحدة , شعرت أن وجهه من فرط الكأبه و التجهم سيتشقق و ينخلع من رأسه و يسقط علي الأرض .

اختفي الرجل وسط الزحام و عدت انظر الي المظاهره مرة أخري , اقتربت قليلا فوضع احد رجال الأمن يده علي كتفي قائلا , لا تدخل جوا لا تعدي تقف الناحية التانية ممنوع الوقفة هنا , تأملته للحظه و انا احاول أن اتخذ قرار الدخول او العودة , تململ وجهه و بدا أنه سيجبرني علي العودة علي الرصيف المقابل من حركة يده الاخري المتحركة تجاه صدري , قلت له .. انا عايز ادخل , فاشار بيده للعساكر ففتحوا الكوردون , بالداخل كان الجو مكفهرا , وجوه مملؤة بالأسي و الغضب , عيون تحاول أن تحبس الدمع من الخروج , وجوه عابسة , لا اعرف لماذا أتتني نفس الفكرة عندما رأيت شاب ينظر الي الأرض حزينا , نفس وجه بائع الكليم و لكنه في وسط المظاهره هذه المرة , و بالتأكيد هو يعرف لما كل هؤلاء هنا , و يعرف ما غرض الهتافات , شعرت أن وجهه من فرط الكأبة و التجهم سيتشقق و ينخلع من وجهه ليسقط علي الارض ايضا .

اليوم و في مترو الانفاق تفحصت الوجوه علي اجد بسمة واحدة علي أي وجه , الكل كان ينظر للأسفل , في منتصف الطريق بين محطتي سعد زغلول و محمد نجيب توقف قطار المترو و طال الانتظار بداخل النفق , رفع رجل في العقد الخامس من عمره وجهه الي الاعلي ناظرا الي الفراغ ثم خرجت كلماته بصوت يأن , الله يلعنكم يا بعدا ثم عاد الوجه الي الحالة الاولي

مطلوب القبض علي من سرقوا الايتسامة من علي وجه الوطن , مطلوب التضامن مع الوطن , الوطن الذي يحتاج الي الكثير من العمل و الجهد , و المكافأة لمن يدلي بأي معلومات عنهم , وطن حقيقي .


statistique